تعيش فرنسا اليوم وضعية سياسية استثنائية بكل المقاييس، وضعية يمكن وصفها بـ”الشاذة” في سياق الديمقراطيات الغربية الكبرى. والسبب يعود بالأساس إلى نمط الاقتراع الذي أفرز مشهداً برلمانياً لا غالب فيه ولا مغلوب، ما جعل السلطة التنفيذية في حالة توتر دائم مع المؤسسة التشريعية، وأدخل البلاد في دوامة من عدم الاستقرار السياسي.
فمنذ إعادة انتخاب إيمانويل ماكرون رئيساً للجمهورية، لم ينجح أي وزير أول في فرض سلطته بشكل مريح داخل الجمعية الوطنية الفرنسية. فبعد سقوط ميشيل بارنيي تحت ضغط سحب الثقة، ها هو فرانسوا بايرو يجد نفسه أمام نفس التهديد، في وقت أصبح البرلمان فضاءً لصراعات لا تنتهي بين كتل غير متجانسة، لا يجمعها سوى رفضها منح الأغلبية الصلبة لأي حكومة قائمة.
المفارقة الكبرى أن الشعب الفرنسي هو من انتخب ماكرون رئيساً، غير أن الكلمة الفصل اليوم باتت بيد الفرق البرلمانية، التي تُلوّح تارة بسحب الثقة من الحكومة، وتارة أخرى بالضغط لفرض خيارات سياسية لا تتماشى مع برنامج الرئيس المنتخب. هنا يبرز الخلل العميق في التوازن بين الشرعية الشعبية التي يمثلها ماكرون، والشرعية البرلمانية التي تبدو عاجزة عن إنتاج بديل واقعي.
وفي ظل هذه الهشاشة، يبقى خيار حلّ البرلمان والدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكّرة مجرد مقامرة غير مضمونة النتائج. بل إن أغلب التقديرات تؤكد أن أي انتخابات جديدة لن تفرز سوى الخريطة الحالية نفسها: صعود نسبي لليمين المتطرف، مقابل عزلة سياسية له، إذ لا حزب ديمقراطي مستعد للتحالف معه. ما يعني أن الأزمة ستظل بنيوية، وليست مجرد أزمة أشخاص أو حكومات.
الأسئلة المطروحة اليوم بحدة: إلى أين تتجه فرنسا؟ وهل يمكن لنظامها السياسي، بصيغته الدستورية الحالية، أن يستوعب هذا الارتباك؟ أم أن البلاد بحاجة إلى إصلاح انتخابي عميق يضمن إنتاج أغلبية واضحة تُمكّن الحكومة من العمل دون أن تكون تحت رحمة الابتزاز السياسي المستمر؟
إن ما يجري في فرنسا ليس فقط أزمة حكومية متكررة، بل أزمة نموذج سياسي برمّته. فالديمقراطية التوافقية التي راهن عليها ماكرون تحولت إلى سيف معلق على رقبته، وقد يجد نفسه، في النصف الثاني من ولايته، رئيساً مكبلاً ببرلمان عاجز عن الحسم، وبمشهد سياسي مشرذم يفتح الباب أمام سيناريوهات غير مسبوقة في تاريخ الجمهورية الخامسة.